شرح حديث: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”

الحديث النبوي الشريف: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” هو من أجمل وأعمق الأحاديث التي حملت في طياتها دعوة صريحة إلى الرحمة والرفق، وهي صفة جليلة من صفات المؤمنين التي تعكس روح الإسلام الرحيمة، وتؤكد على أهمية التراحم بين الناس كطريق للفوز برحمة الله تعالى.

مفهوم الحديث وشرحه اللغوي

كلمة “ارحموا” مشتقة من “الرحمة”، وهي من أسمى الصفات التي يحث عليها الدين الإسلامي. الرحمة تعني الشفقة، الرفق، اللين، والتخفيف من العنف في المعاملة. والرحمة هنا موجهة إلى كل ما على الأرض، سواء أكان إنسانًا أو حيوانًا أو نباتًا أو غير ذلك، بما في ذلك كل ما يحيط بالإنسان من مخلوقات.

العبارة “من في الأرض” تعم كل الكائنات الحية على الأرض من بشر وحيوانات وطيور وغيرهم، فهي دعوة شاملة للرحمة لا تقتصر على نوع معين من الناس أو الكائنات.

أما “يرحمكم من في السماء” فهي إشارة إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، فهذه الرحمة التي تنزل من عند الله، هي الجزاء والثواب الذي يُمنح لمن يتصف بالرحمة والرفق.

دلالات الحديث ومعناه العميق

يحتوي هذا الحديث على عدة دلالات مهمة تشكل أساسًا أخلاقيًا وقيميًا في سلوك المسلم:

1. الرحمة أساس العلاقات الإنسانية: الرحمة هي حجر الأساس في العلاقات بين البشر، فكلما زادت الرحمة زادت المحبة، والتآلف، وانخفضت حالات العنف والبغضاء.

2. الرحمة صفة إلهية يجب الاقتداء بها: الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالرحمن الرحيم، والرحمة صفة من صفاته العظيمة، وبالتالي فإن من يتحلى بالرحمة يكون قد اقترب من صفات الله وأفعال أنبيائه.

3. الرحمة سبب لرحمة الله: من رحمة الإنسان للآخرين، يأتيه جزاء الرحمة من الله، وهو وعد صريح بالجزاء من عند الله تعالى لمن ينشر الرحمة في الأرض.

4. شمولية الرحمة: الرحمة لا تقتصر فقط على البشر، بل تشمل كل مخلوقات الله على الأرض، مما يعزز فكرة الحفاظ على البيئة والكائنات الحية والرفق بها.

الرحمة في الإسلام: قيمة مركزية

الرحمة ليست مجرد خلق حسن في الإسلام، بل هي قيمة مركزية ومبدأ أساسي ينبني عليه التشريع الإسلامي وسلوك المسلم. فقد أرسل الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، كما وصفه القرآن الكريم:

“وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء: 107)

وهذا يدل على أن الإسلام دين الرحمة، والرسالة النبوية هي رسالة رحمة ومغفرة وسلام. الرحمة تشمل كل مناحي الحياة: التعامل مع الناس، الحيوانات، الطبيعة، وحتى النفس.

الرحمة مع الناس

أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرفق والرحمة مع الوالدين، الزوجة، الأطفال، الجيران، الفقراء، وحتى الأعداء. وجعل الرحمة معيارًا للحكم على حسن الخلق.

الرحمة مع الحيوانات

في الإسلام، الرفق بالحيوانات أمر مهم، فالإساءة إليها محرمة. وردت العديد من الأحاديث التي تحث على الرحمة بالحيوانات، ومن أمثلتها الحديث الذي يروي قصة امرأة دخلت النار بسبب تعذيبها لقطة، وحديث الرجل الذي شرب الماء فسقى كلبًا فغفر الله له.

الرحمة مع البيئة

الاهتمام بالحفاظ على البيئة جزء لا يتجزأ من الرحمة. الإسلام يحث على الاعتدال في استخدام الموارد الطبيعية، وعدم الإضرار بالكائنات أو التلوث، وهذا يعد تطبيقًا عمليًا للرحمة في أوسع صورها.

الرحمة كأصل للتعايش الاجتماعي

الرحمة تعمل كعنصر رئيسي لبناء مجتمع متماسك وسلمي. فعندما يسود المجتمع جو من الرحمة، تقل النزاعات، وتكثر الألفة، وينمو التعاون بين أفراده. كما أن الرحمة تقلل من الجرائم والعنف وتجعل المجتمع بيئة مناسبة للعيش بكرامة وأمان.

في إطار الدولة الإسلامية، الرحمة من المبادئ التي يجب أن تحكم السياسات والتشريعات، فتوفير العدل والإنصاف للضعفاء والمحتاجين هو من صور الرحمة. كذلك، الرحمة في الحكم هي صفة من صفات القائد الصالح، الذي يحكم بالعدل ويرعى مصالح الناس برقة وحكمة.

الرحمة في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم

النبي محمد كان نموذجًا حيًا في الرحمة، فقد كان رحيماً بأصحابه، بأعدائه، حتى بالحيوانات، وحتى بالأطفال. في مواقف كثيرة، أظهر النبي الكريم تسامحه ورفقه رغم ما تعرض له من أذى.

• من أشهر مواقف الرحمة للنبي هي حُسن تعامله مع امرأة كانت تسيء إليه، فكان يدعو لها بالهداية بدلاً من الانتقام.

• كما كان النبي يعفو عن الذين أساؤوا إليه، ويتحمل الصعاب برحمة وهدوء.

• كان يعامل الفقراء والمساكين برقة، ويحرص على تلبية حاجاتهم، ويحث أصحابه على الرحمة بهم.

الرحمة من منظور نفسي واجتماعي

الرحمة لا تؤثر فقط على العلاقات بين الناس، بل لها تأثير نفسي عميق على الفرد نفسه. الإنسان الرحوم يكون أكثر سلامًا داخليًا، أقل عرضة للغضب والكراهية، ويشعر بسعادة حقيقية نابعة من فعل الخير.

الرحمة تحسن من صحة الإنسان النفسية والعاطفية، إذ تزيل التوتر والعداء، وتزيد من الشعور بالانتماء والرضا.

على المستوى الاجتماعي، المجتمعات التي تتحلى بالرحمة تبرز فيها ثقافة التعاون والتسامح، مما يؤدي إلى تقليل النزاعات وحل المشكلات بطرق سلمية.

رحمة الله ورحمته بالمؤمنين

الحديث يربط بين رحمة الإنسان برحمة الله، وهي علاقة سبب ونتيجة: إذا رحم الإنسان غيره، يرحمه الله. وهذه الرحمة الإلهية تشمل الغفران، العفو، الهداية، وتيسير الأمور، وهو أمر يشجع الإنسان على الإحسان والرحمة دون انتظار مقابل.

الله رحيم بعباده، يفتح أبواب رحمته دائمًا لمن يتحلى بصفة الرحمة، لذلك فهي صفة تستوجب السعي والاجتهاد فيها.

تطبيقات عملية للحديث في الحياة اليومية

• الرفق بالأطفال: الأطفال كائنات ضعيفة تحتاج إلى رعاية وحنان، فالرحمة معهم تبني شخصياتهم وتخلق أجيالًا متسامحة.

• التعامل مع كبار السن: الرحمة بكبار السن تعكس تقديرنا لمجهوداتهم وتحقق انسجام الأسرة والمجتمع.

• مساعدة الفقراء والمحتاجين: الرحمة تعني تقديم العون والمساعدة لكل محتاج بدون تمييز.

• الرفق بالحيوانات: توفير الطعام والمأوى لها، وعدم تعذيبها أو إساءتها.

• الاعتناء بالبيئة: تنظيف الأماكن العامة، زراعة الأشجار، الحفاظ على الموارد الطبيعية.

الجدول التالي يوضح أبرز تطبيقات الرحمة في مختلف مجالات الحياة:

الرحمة في الفقه الإسلامي

الفقه الإسلامي يولي الرحمة مكانة كبيرة، فالشريعة الإسلامية كلها قائمة على الحكمة والرحمة. كثير من الأحكام جاءت لتخفيف المشقة عن الناس، ومراعاة ظروفهم، وهذا هو جوهر الرحمة.

من ذلك:

• التيسير في العبادات عند الضرورة.

• السماح بالاختيارات في بعض الأمور وفقًا للظروف.

• منع الإيذاء والظلم.

• التشجيع على حسن الخلق والرحمة في كل التصرفات.

الخلاصة

حديث “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” ليس مجرد جملة بل هو رسالة شاملة تتضمن دعوة قوية إلى تجسيد الرحمة في كل تفاصيل حياتنا، مع التأكيد على أن الرحمة بين الناس سبب رئيسي لنيل رحمة الله تعالى. هذه الرحمة يجب أن تكون شاملة لجميع الكائنات، فهي قيمة إنسانية وأخلاقية وروحية ترتقي بالفرد والمجتمع، وتضع أساسًا لمجتمع يسوده السلام والمحبة والعدل.

الرحمة بهذا الحديث النبوي هي منهج حياة، وطريق إلى القرب من الله، وبوابة لسعادة الدنيا والآخرة. يجب أن تكون الرحمة واضحة في أقوالنا وأفعالنا، وأن نتذكر دومًا أن رحمة الله وعفوه لا تنفد، ويبدأ ذلك برحمة الإنسان لمن حوله.

المراجع

1. صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الرحمة.

2. تفسير الطبري، تفسير الآية الكريمة: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء: 107).